فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره، وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دل عليه ظاهر اللفظ، كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثًا.
وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة، فهي: معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة، ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178] وهو صريح مذهبنا، وما بعد هذه الآية وهو قوله: {والذين كَذَّبُواْ بآياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [الأعراف: 182، 183] ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس، إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا، كان كلام المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفًا جدًّا.
أما قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في خلق الأعمال فقالوا: لا شك أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا، ولا شك أنه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيات، وآذان يسمعون بها الكلمات، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين، وهو أنهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين.
وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنه تعالى كلفهم بتحصيل الدين مع أن قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصد عنه مع الأمر به، وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لو كانوا كذلك، لقبح من الله تكليفهم، لأن تكليف من لا قدرة له على العمل قبيح غير لائق بالحكيم.
فوجب حمل الآية على أن المراد منه أنهم بكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الالتفات إليها صاروا مشبهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة.
والجواب: أن الإنسان إذا تأكدت نفرته عن شيء، صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله، وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كل عافل من نفسه.
ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور حبك الشيء يعمي ويصم.
إذا ثبت هذا فنقول: إن أقوامًا من الكفار بلغوا في عداوة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي بغضه وفي شدة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه، والعلم الضروري حاصل بأن حصول البغض والحب في القلب ليس باختيار الإنسان، بل هو حاصل في القلب شاء الإنسان أم كره.
إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد، وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب، فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزومًا لا محيص عنه.
ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى وهو في غاية الحسن.
روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص، وإن أهلكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط، وإن ناله الخوف شغله الحزن وإن أصابته المصيبة قتله الجزع، وإن وجد مالًا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد وأقول: هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف، وهو كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر، لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها، وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر، وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء فصلًا في تقرير مذهب الجبر.
ثم قال فإن قيل: إني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت، وإن شئت الترك تركت، فيكون فعلي حاصلًا بي لا بغيري ثم قال: وهب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئًا شئته، وإن شئت أن لا تشاء لم تشأه، ما أظنك أن تقول ذلك، وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له: بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء، وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته، فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك فالإنسان مضطر في صورة مختار.
المسألة الثانية:
احتج العلماء بقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} على أن محل العلم هو القلب، لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم، وهذا إنما يصح لو كان محل الفهم والفقه هو القلب، والله أعلم.
أما قوله: {أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة، ومتشاركة أيضًا في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر، وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به: فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام.
ثم قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل، والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالًا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها.
فلهذا السبب قال تعالى: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} وقال حكيم الشعراء:
الروح عند إله العرش مبدؤه ** وتربة الأرض أصل الجسم والبدن

قد ألف الملك الحنان بينهما ** ليصلحا لقبول الأمر والمحن

فالروح في غربة والجسم في وطن ** فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن

وقيل في تفسير قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} وجوه أخرى فقيل: لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكافر غير مطيع، وقال مقاتل: هم أخطأ طريقًا من الأنعام، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه.
وقال الزجاج: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها، وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه، ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب، وقيل إنها تفر أبدًا إلى أربابها، ومن يقوم بمصالحها، والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها.
وقيل: لأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد، فأما إذا كان معها مرشد قلما تضل، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ثم إنه تعالى ختم الآية فقال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} قال عطاء: عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا} يعني خلقنا لجهنم كثيرًا {مّنَ الجن والإنس} فإن قيل: قد قال في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فأخبر أنه خلق الجن والإنس لعبادته.
وهاهنا يقول: خلقهم لجهنم.
قيل له: قد خلقهم للأمرين جميعًا منهم من يصلح لجهنم فخلقه لها، ومنهم من يصلح للعبادة فخلقه لها، ولأن من لا يصلح لشيء لا يخلقه لذلك الشيء.
ويقال معنى قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} يعني: إلا للأمر والنهي.
ويقال: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} يعني: إلا لكي يمكنهم أن يعبدوا، وقد بينت لهم الطريق.
ويقال: في هذه الآية تقديم وتأخير.
ومعناه: ولقد ذرأنا جهنم لكثير من الجن والإنس.
ثم وصفهم فقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} يعني: لا يعقلون بها.
الحق كما قال في آية أخرى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] ثم قال: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} يعني: الهدى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} يعني: الهدى.
ثم ضرب لهم مثلًا آخر فقال: {أُوْلَئِكَ كالانعام} فشبههم بالأنعام لقلة رغبتهم وتغافلهم عن الحق.
يعني: إنهم كالأنعام في ذهنهم لا في صورهم.
لأنه ليس للأنعام إلا الأكل والشرب، فهي تسمع ولا تعقل، كذلك الكافر هو غافل عن الأمر والنهي والوعد والوعيد.
ثم قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} سبيلًا يعني: الكفار أخطأ طريقًا من الأنعام، لأن الأنعام إذا عرفت أنها تركت الطريق رجعت إلى الطريق، والكفار لا يرجعون إلى الطريق.
ولأن الأنعام تعرف ربها، والكفار لا يعرفون ربهم.
ويقال: لمَّا نزلت هذه الآية: {أُوْلَئِكَ كالانعام} تضرعت الأنعام إلى ربها.
فقالت: يا ربنا شبهت الكفار بنا ونحن لا ننكر وحدانيتك.
فأعذر الله تعالى الأنعام.
فقال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام لأن الأنعام مطيعة لله تعالى.
والكفار غير مطيعين لله تعالى.
ثم قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} يعني: عن أمر الله تعالى وعما ينفعهم.
قال الفقيه أبو الليث: حدثنا أبو جعفر.
قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن عبد الله القاري.
قال: حدثنا حازم بن يحيى الحلواني.
قال: حدثنا الحسين بن الأسود.
قال: حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن سنان عن أبي منيب الحمصي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ الله الجِنَّ ثَلاَثَةَ أصْنَافٍ صِنْفًا حَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ وَخَشَاشَ الأَرْضِ، وَصِنْفًا كَالرِّيحِ فِي الهَوَاءِ، وَصِنْفًا عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَخَلَقَ الله الإنْسَ ثَلاثَةَ أصْنَافٍ صِنْفًا كَالبَهَائِمِ وَهُمُ الكُفَّارُ، قال: قال الله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} وَصِنْفًا آخَرَ أَجْسَادُهُم كَأَجْسَادِ بَنِي آَدَم وَأَرْوَاحُهُم كَأَرْوَاحِ الشَّيَاطِينِ، وَصِنْفًا فِي ظِلِّ الله يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلَّهُ». اهـ.

.قال الثعلبي:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس}.
وإنما قال ذلك لنفاد علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم ويُسمّي بعض أهل المعاني هذه اللام لام الصيرورة فيه كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]. وأنشدوا:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ** ودورنا لخراب الدهر نبنيها

وقال الآخر:
فللموت تغدو الوالدات سخالها ** كمالخراب الدهر تبنى المساكن

وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: {إن الله تعالى كما ذرأ لجهنم ما ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم}، ثمّ وصفهم فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} ولا يعلمون الخير والهدى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} طريق الحق والرشاد {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} مواعظ الله والقرآن فيفكرون ويعتبرون بها فيعرفون بذلك توحيد الله ثمّ يعملون بتحقيق النبوّة فآتينا بهم ثمّ ضرب لهم مثلًا في الجهل والاقتصاد على الشرب والأكل وبعدهم من موجبات العمل. وقال عز من قائل: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ويطيعوه والكافرون لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه وفي الخبر: «كل شيء أطوع لله من ابن آدم».
{أولئك هُمُ الغافلون}. اهـ.